تاغيت جوهرة الساورة بـالجزائر
تعتبر
السياحة الصحراوية الجزائرية مطلب إقتصادي وإستراتيجي هام في الآونة الأخيرة لما
تتفرد به من خصائص إقتصادية وطبيعية هامة تجعلها قادرة على توفير موارد مالية
وإقتصادية خارج قطاع المحروقات ودفع عجلة النمو الإقتصادي، حيث ستساهم بشكل
كبير في تقليص البطالة التي أضحت كابوسا يلاحق الشباب الجزائري، وزيادة الناتج
الوطني كذلك.
عندما نسمع الحديث عن الجنوب الغربي الجزائري أول ما يتبادر إلى
الذهن عاصمة منطقة الساورة، وهي ولاية بشارالتي تبعد عن الجزائر العاصمة بـ 1020 كم،
هذه الأخيرة تعرف توافدا كبيرا للسياح من داخل وخارج الوطن على أشهر المناطق
السياحية فيها التي تسحر القلوب وتأسر العقول لعظيم الجمال
الذي رسمه رب العباد فيها، وذلك خلال
موسم السياحة الصحراوية، على غرار مناطق كرزاز، قصور الشمال، تبلبالة وتاغيت.
عروس الساورة "تاغيت" ولاية بشار الجزائر |
تاغيت ..تاريخ
تقع تاغيت في أقصى الجنوب الغربي للجزائر على
بعد 1117 كم عن عاصمة البلاد و 97 كم جنوب شرق عاصمة الولاية بشار، يحدها شرقا العرق
الغربي الكبير، شمالا بني ونيف وبشار، وجنوبا إقـلي،بني عبــاس، وغربا العبــادلة
تمتد
منطقة تاغيت على هضبة حيث تستنشق هذه المدينة هوائها من وادي زوزفانة الممتد على سفوح عرق الكثبان الرملي من الحدود
الشرقية للجزائر إلى غرب المغرب الشقيق، وواحات إختارت يد الإنسان أن تجعلها مكانا مميزا.
تاغيت أو "تاغيلت
"أو "أغيل" تنقلنا التسمية إلى أحقاب زمنية عابرة متصلة بسكانها
الأوائل بني كومي " بني ڤومي" وبني ڤومي
أوڤومية هم فرقة من بني عبد الواد ملوك تلمسان أو أصهارهم الذين تكلم عنهم المؤرخ
عبدالرحمان بن خلدون(ت809هـ/1406م) في تاريخه العبر، حيث فارقوا إخوانهم بني
عبدالواد وانحازوا إلى بني مرين بعد أن أطاح بنو مرين ملوك فاس ببني عبد الواد
ملوك تلمسان عام 735هـ/1334م. هذا ويقول العلامة المؤرخ عبدالرحمان بن
خلدون(ت809هـ/1406م) عن بني ڤومي هؤلاء من بني عبد الواد في حديثه عن ذوي حسان ضمن
حديثه عن عرب المعقل في "الخبر عن دخول العرب من بني هلال وسليم المغرب من
الطبقة الرابعة وأخبارهم هناك".
حسب الروايات التاريخية أن تاغيت مشتقة من الكلمة العربية "غيث" أو "إغاثة"، وقد أطلق عليها هذا الإسم من قبل عجوز أعياه المشي حين ظهرت له واحة وافرة الثمار يجري بها ماء عذب، فاستراح عندها وأكل من خيراتها وشرب من مائها. يقال كذلك غن إسم تاغيت مشتق من "تاغونت"، وتعني بالبربرية كما جاء على لسان قبيلة زناتة "الحجر" أو" تلغيت" وتعني الهضبة إذ بنيت على ربوة، و"إغيل" هو الذراع والبعض يقول إنه المكان الضيق بين الجبل والكثبان الرملية.
ومن المؤكد أن
تاغيت كانت آهلة بالسكان منذ أكثر من أحد عشر11 قرنا، وهذا ما أكده إبن خلدون وحسن
الوزان أن بني ڤومي
كانوا أول من سكن المنطقة، وهم من قبائل العهد الواديد الذين حكموا تلمسان قبل أن
ينهزموا أمام المرينيين في فاس عام 735 للهجرة ليقرروا العودة والإستقرار
بالصحراء، ويبدوا أن هضبة زوزفانة التي تقع عليها تاغيت سكنت منذ عصور بعيدة،
والقصور وآثارها تثبت ذلك في الحقبة الاجورية، ونظرا لعددهم الكبير سمي سكان
الهضبة "قوم"، ومن هذا جاءت تسمية " بني ڤومي" الإسم الحالي
للسكان. وهناك روايات تقول أن أول من سكن تاغيت هم قبيلة الروابح " أولاد
بلخير فقيق"، كما تكالبت عليها القبائل فضاع منها العلم الذي كانت تزدهر به،
أما في عهد الإستعمار الفرنسي فقد شهدت المنطقة دخول القوات الفرنسية شهر فيفري
1897 بقيادة الرائد غوردن.
قصــور طينية
ترقد مدينة "تاغيت" على "كنز طيني" يصل عمره إلى أكثر من 11 قرنا ولا يزال صامدا رغم طول الزمن، ذلك الكنز هو "قصور تاغيت"، فما قصة هذه القصور؟.
عند الوصول إلى المدينة،
أول ما يخطف نظر الزائر لها تلك القصور المبنية من مادة الطين، والتي تحكي العديد
من قصص سكان قاوموا وصمدوا في وجه ظروف الحياة الطبيعية القاسية في قرون مضت،
وتمكنوا من إنشاء حضارة ما تزال العديد من كتب المؤرخين تحكي عنهم الكثير، فعندما
يُشاهد الزائر هذه القصور، يعرف تاريخ المدينة وكأنه يقرأ من كتاب، ويرجع السبب في
إستخدام الطين في إنشاء هذه القصور إلى قدرته الكبيرة على مقاومة الطبيعة القاسية
للمنطقة الصحراوية، فهو يحد من دخول الحرارة في الصيف الحار و الجاف، إذ تتجاوز
درجات الحرارة في فصل الصيف 50 درجة مئوية. وعلى الرغم من اختلاف هذه القصور في
شكلها الهندسي، إلا أنها تتشابه في طابعها العمراني، بحيث يكون المسجد في مدخل
المدينة وتأتي بعده البيوت، ويقع سوق كل قصر خارج المدينة، وذلك بهدف منع الأجانب
من دخول المدينة، وبالنسبة للمنازل في قصور تاغيت، فقد بنيت بطريقة هندسية بارعة
بما يسمح لأشعة الشمس بالدخول إليها، وعند التجوال بين أزقة القصور، سوف يلاحظ
الزائر ضيق الشوارع، وصغر مساحة نوافذ البيوت التي وضعت في أسقفها والمسماة
بـ"عين الدار"، والتي تستعمل في تهويتها، وفي منع انتشار الديدان التي
تأكل خشب المنازل.
قصر تاغيت العتيق
بقي قصر واحة تاغيت العتيق
الذي شيد في القرن الحادي عشر بالرغم من ثقل السنين شاهدا على تاريخ يعود إلى آلاف
السنين، ويُرجع مؤرخون تشييد هذا الصرح العتيق إلى اثنين من الأولياء الصالحين
وهما "سيد سليمان" و"مرابط سيد أحمد" من قبيلة عمارة، واشتهرا
بكونهما من أصلاء وادي الساحل والساقية الحمراء.
بُني قصر تاغيت العتيق على هضبة صخرية متجهة شرقا صوب الكثبان الكبيرة ومتصدرة يمينا باتجاه وادي زوزفانة وواحته في الأسفل، ويطل هذا القصر على قرية تاغيت الأثرية المحصنة التي تضم أطلال 120 منزلا، لكن لا يقطنها أحد اليوم، حيث غادرتها آخر عائلة من العائلات الستين التي ظلت تسكنها سنة 1991
قصر تاغيت العتيق |
ويشير مؤرخ فرنسي في هذا
الصدد إلى أنّ قصر تاغيت بنيت جدرانه من الطوب المتهدم، كما يشدّد على أنّ المعلم
تمّ تشييده على هضبة صخرية تنحدر عموديا نحو وادي زوسفانة وتتجمع فيها في تشابك
معقد، ويروي"بول لاغات" أنّ الدخول إلى قرية تاغيت في
الخمسينيات، كان يتم عن طريق باب منخفضة تؤدي بالزائر إلى الغوص داخل شوارع ضيقة
متشابكة بين المنازل حيث تجدها تارة تصعد وتارة أخرى تنحدر لتغير فجأة الاتجاه حسب
تقلبات الأرضية وبحسب ابتكارات المعماريين.
نقوش على الصخر
ما يشد
إنتباه الزائر لتاغيت أيضا "النقوش على الصخر" التي عبّر من خلالها سكان
المنطقة الأولين عن بيئتهم والحيوانات التي عاشت معهم بنقشها على الصخر، ويعود
تاريخ هذه المحطات من 7 آلاف إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، كما يعتبر الفن الصخري
أهم وأقدم دليل إنساني وثقافي في المنطقة.
نقوش على الصخر تعود لآلاف السنين |
كثبان رملية لهواة المغامرة
تاغيت مدينة مليئة بكثبان
رملية متموِّجة ذهبية اللون مائلة إلى الاحمرار، وتقابلها في الجهة الأخرى مجموعة
من الجبال الصخرية على هيئة سلاسل متباعدة ومتلاحمة، تجعل الزائر لها ينبهر بجمالها.
فالزائر لتاغيت لا يفوّت فرصة الصعود إلى قمة هذه الكثبان
الرملية الشاهقة التي يتجاوز إرتفاعها 200 متر، لخوض تجربة المغامرة التزحلق أو
ركوب الدراجات النارية عند ساعة الغروب حتى يتمتع بمشاهدة منظر غروب الشمس الذي
يريح القلب ويبعث في النفس الطمأنينة.
التزحلق على الكثبان الرملية بتاغيت |
العلاج بالرمل
إلى
جانب تمتّع الزائر بجمال الكثبان الرملية التي تشتهر بها تاغيت، البعض أيضا يتداوى بهذه الرمال الصحراوية التي أضحت مقصدا
للمرضى كذلك، فحبات رمل المنطقة تتمتع
بخصائص علاجية كبيرة لمكافحة العديد من الأمراض مثل الروماتيزم، والتهاب المفاصل،
وآلام أسفل الظهر، وآلام العضلات والحساسية وغيرها.
وتتكون أحواض الرمل عن طريق
حفر حفرة مقابلة لقياس حجم المريض إلى عمق لا يتجاوز عادة 20 سنتمتر، ويبقى الثقب
مفتوحا لمدة نصف ساعة حتى يتم امتصاص الحرارة. بعدها يستلقي المريض بالحفرة على
ظهره ومغطى بالكامل بالرمال الساخنة، باستثناء الرأس، لفترات تحدد بحسب حالة
المريض الصحية، وسنه، وطبيعة مرضه، وقد تصل عند القادر على التحمل إلى 35 دقيقة،
فيما لا تتجاوز 15 دقيقة بالنسبة للعجزة، تمتص خلالها الرمال كميات كبيرة من الماء
الزائد في الجسم.
علاج العديد من الأمراض بالرمال |
الجمال والخيم لالتقاط الصور
يعرض بعض سكان المنطقة والمهتمون بالسياحة خدماتهم على السياح وسط الكثبان الرملية والنخيل، هذه الأخيرة تعتبر المكان المفضل لدى السياح الأجانب والمحليين الذين يرغبون في الإحتفاظ بذكريات عن جوهرة الساورة ومناظرها الساحرة، حيث يتم نصب العديد من الخيم فوق الكثبان الرملية لتمكين السائح من التقاط صور وسط هذا الديكور التقليدي الجميل الذي يرمز للثقافة الصحراوية الجزائرية، أو القيام بجولة على ظهر الجمال.
جولة على ظهر الجمال في الكثبان الرملية |
فقارات السقي
الملفت للإنتباه في صحرائنا على غرار "تاغيت" وجود الفقارات، وهي طريقة بدائية في السقي أثبت نجاعتها حسب السكان وتستعمل لسقي النخيل بنظام متناسق. وتحتوي بلدية تاغيت على أزيد من 100 ألف نخلة وتنتج 50 نوعا من التمور أهمها المعسلة، اليابسة، تمليحة، تيوراغين والفقوس وغيرها من التمور.
طريقة السقي التقليدية |
أكلات شعبية وسهرات تقليدية
يفضل
بعض أبناء المنطقة إقامة مطاعم تقليدية داخل الخيم وسط ديكور تقليدي رائع، ومن
أشهر الأكلات التقليدية في جوهرة الساورة "تاغيت " التي تقدم للسياح
بناء على طلبهم، نجد الكسكس " الطعام" بالمرق واللحم، الحريرة، خبز
الشحمة أو المخلع .
خبز الشحمة أو المخلغ |
يحضر الشاي على
الجمر في أغلب الأوقات والجلسات، خاصة السهرات التي تقام لفائدة السياح من خلال
دعوة فرقة محلية معروفة وهي فرق "الڤناوي" و"القرقابو" التي
تقيم سهراتها على الكثبان الرملية.
فرقة البارود تاغيت |
خدمات لإستقطاب السياح
السائح اليوم لم يعد يجذبه
الهواء المنعش والجو الجميل بقدر ما تجذبه الخدمات كذلك على كافة الأصعدة
والمستويات من لحظة حجز تذكرة السفر التي تناسب وضعه المالي، إلى اختيار الفندق
الذي يقدم خدمات تنافسية من أطعمة مناسبة، إيواء مريح، وتنقلات داخلية لزيارة
المعالم والمناظر التي تزخربها المنطقة التي إختارها وجهة له.
يوجد حاليا بمنطقة تاغيت
إضافة إلى هياكل الإستقبال التابعة للقطاع
الخاص لاسيما على مستوى القصر "الإقامات العائلية"، منشأة فندقية تابعة
لسلسلة الفنادق العمومية "الجزائر"، ويتوفر هذا الهيكل الفندقي على 59
غرفة وجناحين، بمجموع 118 سريرًا بالإضافة إلى مطعم (120 مقعدًا)، وغرفة متعددة
الخدمات (أكثر من 200 مقعد) ومرافق للراحة والترفيه، ومسبح في الهواء الطلق.
فندق الساورة تاغيت |
مشاريع سياحية لتعزيز طاقة الإستقبال
ولدعم القطاع السياحي في المنطقة
وتعزيز القدرات اللازمة لإستقبال السياح من داخل وخارج الوطن القاصدين عروس
الساورة "تاغيت"، تجرى عملية إنجاز فندق جديد بطاقة 122 غرفة، وتطلب هذا
الهيكل الفندقي والسياحي الجديد استثمارا تجاوز 300 مليون دج، إذ يغطي مساحة بأكثر
من واحد هكتار.
هذه
المنشأة الفندقية التي سجلت تقدما ملحوظا في ورشاتها بنسبة تعدت 75 بالمائة، من
المنتظر إستلامها ودخولها حيز الخدمة في جوان 2022 بطاقة 244 سريرًا، وسيكون هذا
الفندق الذي يقع بالقرب من مدينة الزاوية الفوقانية، غير بعيد من تاغيت، مجهزًا
بمختلف المرافق والوسائل الحديثة اللازمة، بما في ذلك مطعم يتسع لأكثر من 200
مقعدًا ومسبح ومرافق الراحة والترفيه بالإضافة إلى قاعات للرياضات الجماعية
والفردية، وسيوفر هذا المشروع السياحي لدى دخوله حيز الخدمة 200 منصب عمل جديد.
لقد أصبحت السياحة من الصناعات الرائدة التي تدر دخلا كبيرا، وقد تم
الإعتماد عليها في العديد من الدول ونجحت في زيادة مواردها، ووصفت السياحة
بالعملاق الإقتصادي الجديد والصناعة الأكثر نموا في العالم، ولهذا لابد على
سلطات هذا القطاع الفعال تجنيد كل الموارد
المادية والبشرية اللازمة للنهوض به، ووضعه ضمن السياسات الرامية لدفع عجلة النمو الإقتصادي ومن ثم تحقيق التنمية
الإقتصادية المرجوة خارج قطاع المحروقات.
تعليقات
إرسال تعليق